فصل: المهيع الثاني في الأيمان التي يحلف بها أهل الكفر ممن قد يحتاج إلى تحليفه:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: صبح الأعشى في كتابة الإنشا (نسخة منقحة)



.المهيع الثاني في الأيمان التي يحلف بها أهل الكفر ممن قد يحتاج إلى تحليفه:

وهم على ضربين:
الضرب الأول: من زعم منهم التمسك بشريعة نبي من الأنبياء عليهم السلام:
وهم أصحاب ثلاث ملل:
الملة الأولى: اليهود:
واشتقاقها من قولهم: هاد إذا رجع. ولزمها هذا الاسم من قول موسى عليه السلام: {إنا هدنا إليك} أي رجعنا وتضرعنا. ومنتحلها اليهود المتمسكون بشريعة موسى عليه السلام. قال السلطان عماد الدين صاحب حماة في تاريخه: وهم أعم من بني إسرائيل: لأن كثيراً من أجناس العرب والروم وغيرهم قد دخلوا في اليهودية وليسوا من بني إسرائيل. وكتابهم الذي يتمسكون به التوراة، وهو الكتاب الذي أنزل على موسى عليه السلام.
قال أبو جعفر النحاس، في صناعة الكتاب: وهي مشتقة من قولهم: ورت ناري ووريت، وأوريتها إذا استخرجت ضوءها: لأنه قد استخرج بها أحكام شرعة موسى عليه السلام وكان النحاس يجنح إلى أن لفظ التوراة عربي؛ والذي يظهر أنه عبراني معرب: لأن لغة موسى عليه السلام كانت العبرانية، فناسب أن تكون من لغته التي يفهمها قومه، قال الشهرستاني في النحل والملل: وهي أول منزل على بني إسرائيل سمي كتاباً، إذ ما قبلها من المنزل إنما كان مواعظ ونحوها. قال صاحب حماة: وليس فيها ذكر قيامة ولا الدار الآخرة ولا بعث ولا جنة ولا نار، وكل وعيد يقع فيها إنما هو بمجازاة دنيوية، فيوعدون على مجازاة الطاعة بالنصر على الأعداء، وطول العمر، وسعة الرزق ونحو ذلك؛ ويوعدون على الكفر والمعصية بالموت ومنع القطر والحميات والحرب، وأن ينزل عليهم بدل المطر الغبار والظلمة ونحو ذلك، يشهد لما قاله قوله تعالى: {فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم}، الآية، فجعل الظلم سبباً للتحريم. قال: وليس فيها أيضاً ذم الدنيا، ولا طلب الزهد فيها، ولا وظيفة صلوات معلومة، بل في التوراة الموجودة بأيديهم الآن نسبة أمور إلى الأنبياء عليهم السلام من الأسباط وغيرهم لا تحل حكايتها.
واعلم أن التوراة على خمسة أسفار: أولها- يشتمل على بدء الخليقة والتاريخ من آدم إلى يوسف عليه السلام.
وثانيها- فيه استخدام المصريين بني إسرائيل، وظهور موسى عليه السلام عليهم، وهلاك فرعون، ونصب قبة الزمان وهي قبة كان ينزل على موسى فيها الوحي وأحوال التيه، وإمامة هارون عليه السلام، ونزول العشر كلمات في الألواح على موسى عليه السلام، وهي شبه مختصر مما في التوراة يشتمل على أوامر ونواه وسماع القوم كلام الله تعالى. وقد أخبر الله تعالى عنها بقوله: {وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلاً لكل شيء}. قال مجاهد: وكانت الألواح من زمردة خضراء، وقال ابن جبير: من ياقوتة حمراء، وقال أبو العالية: من زبرجد، وقال الحسن: من خشب نزلت من السماء، ويقال: إنها كانت لوحين. وإنما جاءت بلفظ الجمع: لأن الجمع قد يقع على الاثنين، كما في قوله تعالى: {وإن كان له إخوة} والمراد اثنان.
وثالثها- فيه كيفية تقريب القرابين على سبيل الإجمال.
ورابعها- فيه عدد القوم، وتقسيم الأرض بينهم، وأحوال الرسل الذين بعثهم عليه السلام من الشام، وأخبار المن والسلوى والغمام.
وخامسها- فيه أحكام التوراة بتفصيل المجمل، وذكر وفاة هارون ثم موسى عليه السلام بعدهما.
ثم ذكر الشهرستاني وغيره أن في التوراة البشارة بالمسيح عليه السلام، ثم بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، إذ قد ورد ذكر المشيحا في غير موضع، ونه يخرج واحد في آخر الزمان، وهو الكوكب المضيء الذي تشرق الأرض بنوره. وغير خاف على ذي لب أن المراد بالمشيحا المسيح عليه السلام، وأن المراد بالذي يخرج في آخر الزمان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم؛ بل ربما وقعت البشارة بهما جميعاً في موضع واحد، كما في قوله: إن الله تعالى جاء من طور سيناء وظهر من ساعير وعلن بفاران. وساعير هي جبال بيت المقدس حيث مظهر المسيح عليه السلام، وفاران جبال مكة حيث ظهر النبي صلى الله عليه وسلم.
قال الشهرستاني: ولما كانت الأسرار الإلهية، والأنوار الربانية في الوحي والتنزيل، والمناجاة والتأويل على ثلاث مراتب: مبدإ ووسط وكمال، وكان المجيء أشبه شيء بالمبدإ، والظهور أشبه بالوسط، والعلن أشبه بالكمال، عبر في التوراة عن طهور صبح الشريعة والتنزيل بالمجيء على طور سيناء، وعن طلوع شمسها بالظهور على ساعير، وعن بلوغ درجة الكمال والاستواء بالعلن على فاران؛ وقد عرفوا النبي صلى الله عليه وسلم بوصفه في التوراة حق المعرفة: {فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين}. وقد ذكر المفسرون عن ابن عباس رضي الله عنه أن موسى عليه السلام لما ألقى الألواح عند رجوعه إلى قومه، تكسرت فلم يبق منها إلا سدسها. ويروى أن التوراة كانت سبعين وسق بعير. وأنها رفع منها ستة أسباعها وبقي السبع ففي الذي بقي الهدى والرحمة، وفي الذي رفع تفصيل كل شيء.
وليعلم أن اليهود قد افترقوا على طوائف كثيرة، المشهور منها طائفتان:
الطائفة الأولى: المتفق على يهوديتهم وهم القراؤون:
وهم وإن كانوا فرقتين، فإنهم كالفرقة الواحدة، إذ توراتهم واحدة، ولا خلاف في أصل اليهودية بينهم. وقد اتفق الجميع على استخراج ستمائة وثلاث عشرة فريضة من التوراة يتعبدون بها. ثم كلهم متفقون على نبوة موسى وهارون ويوشع عليهم السلام، وعلى نبوة إبراهيم وإسحاق ويعقوب: وهو إسرائيل، والأسباط: وهم بنوه الاثنا عشر الآتي ذكرهم آخراً. وهم ينفردون عن الطائفة الثانية الآتي ذكرها: وهي السامرة بنبوة أنبياء غير موسى وهارون ويوشع عليهم السلام، وينقلون عن يوشع تسعة عشر كتاباً زيادة على التوراة يعبرون عنها بالنبوات تعرف بالأول.
ثم الربانيون ينفردون عن القرائين بشروح موضوعة لفرائض التوراة المتقدمة الذكر، وضعها أحبارهم، وتفريعات على التوراة ينقلونها عن موسى عليه السلام.
ويتفق الربانيون والقراؤون على أنهم يستقبلون صخرة بيت المقدس في صلاتهم، يوجهون لها موتاهم، وعلى أن الله تعالى كلم موسى عليه السلام على طور سيناء: وهو جبل في رأس بحر القلزم في جهة الشمال على رأس جزيرة في آخره، داخل بين ذراعين يكتنفانه.
وهم مختلفون في أمرين: أحدهما- القول بالظاهر والجنوح إلى التأويل. فالقراؤون يقفون مع ظواهر نصوص التوراة، فيحملون ما وقع فيها منسوباً إلى الله تعالى: من ذكر الصورة، والتكلم، والاستواء على العرش، والنزول على طور سيناء، ونحو ذلك على ظواهره، كما تقوله الظاهرية من المسلمين، وينجرون من ذلك إلى القول بالتشبيه، والقول بالجهة. والربانيون يذهبون إلى تأويل ما وقع في التوراة من ذلك كله؛ كما تفعل الأشعرية من المسلمين.
الثاني- القول بالقدر. فالربانيون يقولون بأن لا قدر سابق وأن الأمر أنف كما تقوله القدرية من المسلمين. والقراؤون يقولون بسابق القدر كما تقوله الأشعرية. أما ما عدا ذلك فكلا الفرقين يقولون: إن الله تعالى قديم أزلي واحد قادر، وإنه تعالى بعث موسى بالحق، وشد أزره بأخيه هارون. ويعظمون التوراة التي هي كتابهم أتم التعظيم، حتى إنهم يقسمون بها كما يقسم المسلمون بالقرآن، وكذلك العشر كلمات التي أنزلت على موسى عليه السلام في الألواح الجوهر؛ وقد تقدم أنها مختصر ما في التوراة، مشتملة عل أوامر ونواه وسماع كلام الله تعالى، وهم يحلفون بها كما يحلفون بالتوراة، ويعظمون قبة الزمان وما حوته: وهي القبة التي كان ينزل على موسى فيها الوحي.
ومن أعظم أنواع الكفر عندهم تعبد فرعون وهامان لعنهما الله. وكان اسم فرعون موسى فيما ذكره المفسرون الوليد بن مصعب، وقيل: مصعب بن الريان. واختلف فيه: فقيل كان من العمالقة، وقيل من النبط. وقال مجاهد: كان فارسياً وهامان وزيره والتبري من إسرائيل وهو يعقوب عليه السلام ومعنى إسرائيل فيما ذكره المفسرون عبد الله كأن إسرا عبد، وإيل اسم الله تعالى بالعبرانية. وقيل: إسرا من السر، وكأن إسرائيل هو الذي شدده الله وأتقن خلقه.
ومن أعظم العظائم عندهم الأخذ بدين النصرانية، وتصديق مريم عليها السلام في دعواها أنها حملت من غير أن يمسها بشر؛ ويرمونها بأنها حملت من يوسف النجار، وهو رجل من أقاربها كان يخدم البيت المقدس معها، ويرون تبرئتها من ذلك جريرة تقترف.
ويستعظمون الوقوع في أمور:
منها: القول بإنكار طاب الله تعالى لموسى عليه السلام وسماعه له.
ومنها: تعمد طور سيناء الذي كلم الله تعالى موسى عليه بالقاذورات، ورمي صخرة بيت المقدس التي هي قبلتهم بالنجاسة، ومشاركة بختنصر في هدم بيت المقدس وقتل بني إسرائيل، وإلقاء العذرة على مظان أسفار التوراة.
ومنها: الشرب من النهر الذي ابتلى به قوم طالوت ملك بني إسرائيل، والميل إلى جالوت ملك الكنعانيين: وهو الذي قتله داوود عليه السلام، ومفارقة شيعة طالوت الذين قاموا معه على جالوت. وذلك أنه لما رفعت التوراة وتسلط على بني إسرائيل عدوهم من الكنعانيين الذين ملكهم جالوت، كانت النبوة حينئذ فيهم في شمعون، وقيل في شمويل، وقيل في يوشع بن نون، فقالوا له: إن كنت صادقاً فابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله، فقال لهم ما أخبر الله تعالى به: {إن الله قد بعث لكم طالوت ملكاً} ولم يكن من سبط الملك، إذ كان الملك من سبط معروف عندهم، فقيل: كان سقاء، وقيل: كان دباغاً، فأنكروا ملكه عليهم، وقالوا كما أخبر الله تعالى: {أنى يكون له الملك علينا} الآية؛ فلما فصل طالوت بالجنود أراد الله تعالى أن يريه من يطيعه في القتال ممن يعصيه، فسلط عليهم العطش وابتلاهم بنهر من حولهم، قيل: هو نهر فلسطين، وقيل: نهر بين الأردن وفلسطين، فقال لهم طالوت: {إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني} إلى قوله: {وقتل داوود جالوت}.
ومنها: إنكار الأنبياء الذين بعثهم الله تعالى إليهم: وهم موسى وهارون ويوشع ومن بعدهم: من أنبيائهم عليهم السلام، ومن قبلهم: من إبراهيم وإسحاق ويعقوب صلوات الله عليهم، والأسباط الاثني عشر الآتي ذكرهم، والدلالة على دانيال النبي عليه السلام حتى قتل، وإخبار فرعون مصر بمكان إرمياء النبي عليه السلام عند اختفائه بها، والقيام مع البغي والفواجر يوم يحيى بن زكريا عليهما السلام في المساعدة عليه.
ومنها: القول بأن النار التي أضاءت لموسى عليه السلام العوسج بالطريق عند مسيره من مدين حتى قصدها وكانت وسيلة إلى كلام الله تعالى له نار إفك لا وجود لها؛ وكذلك أخذ الطرق على موسى عليه السلام عند توجهه إلى مدين فاراً من فرعون، والقول في بنات شعيب اللاتي سقى لهن موسى عليه السلام بالعظائم ورميهن بالقبيح.
ومنها: الإجلاب مع سحرة فرعون على موسى عليه السلام والقيام معهم في غلبته، والتبري ممن آمن منهم بموسى عليه السلام ومنه: قول من قال من آل فرعون: اللحاق اللحاق: لندرك من فر: من موسى وقومه عند خروجهم، كما أخبر الله تعالى عن ذلك بقوله: {فأتبعوهم مشرقين فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون}.
ومنه: الإشارة بتخليف تأبوت يوسف عليه السلام بمصر حين أراد موسى عليه السلام نقله إلى الشام ليدفنه عند آبائه: إبراهيم وإسحاق ويعقوب: وذلك أنهم جعلوا تأبوته في أحد شفي النيل فأخصب وأجدب الجانب الآخر، فحولوه إلى الجانب الآخر فأخصب ذلك الجانب وأجدب الجانب الأول، فجعلوه وسط النيل فأخصب جانباه جميعاً، إلى أن كان زمن موسى عليه السلام وضرب النيل بعصاه فانفلق عن التأبوت، فأخذ في نقله إلى الشام ليدفنه عند آبائه كما تقدم، فأشار بعضهم ببقائه بمصر فوقع في محظور لمخالفة موسى عليه السلام فيما يريده.
ومنها: التسليم للسامري وتصديقه على الحوادث التي أحدثها في اليهودية على ما سيأتي ذكره في الكلام على السامرة في الطائفة الثانية من اليهود.
زمنه: نزول أريحا: مدينة الجبارين من بلاد فلسطين.
ومنها: الرضا بفعل سكنة سدوم من بلاد فلسطين أيضاً وهم قوم لوط.
ومنها: مخالفة أحكام التوراة التي ورد الحث فيها عليها.
ومنها: استباحة السبت بالعمل فيه والعدو فيه: إذ استباحته عندهم توجب هدر دم مستبيحه من حيث إنه مسخ من مسخ باستباحته قردة وخنازير، والله تعالى يقول: {وقلنا لهم لا تعدوا في السبت وأخذنا منهم ميثاقاً غليظاً}.
ومنها: إنكار عيد المظلة وهو سبعة أيام أولها الخامس عشر من تشرى وعيد الحنكة وهو ثمانية أيام يوقدون في الليلة الثانية سراجين وهكذا حتى يكون في الليلة الثامنة ثمانية سرج وهما من أعظم أعيادهم.
ومنها: القول بالبداء على الله في الأحكام، وهو أن يخطر له غير الخاطر الأول، وهو تعالى منزه عن ذلك، ورتبوا عليه منع نسخ الشرائع، ويزعمون أن النسخ يستلزم البداء، وهو مما اتفق كافة اليهود على منعه، على ما تقدم أولاً.
ومنها: اعتقاد أن المسيح عليه السلام هو الموعود به على لسان موسى عليه السلام، المذكور بلفظ المشيحا وغير ذلك، على ما تقدمت الإشارة إليه.
ومنها: الانتقال من دين اليهودية إلى ما سواها من الأديان، إذ عندهم أن شريعة موسى عليه السلام هي التي وقع بها الابتداء، وبها وقع الاختتام.
ومنها: الانتقال من اليهودية إلى ما عداها من الأديان: كالإسلام والنصرانية وغيرهما، فإنه يكون بمثابة المرتد عند المسلمين.
ومنها: استباحة لحم الجمل: فإنه محرم عندهم، ومن استباحه فقد ارتكب محظور عظيماً عندهم؛ وقد دخل ذلك في عموم قوله تعالى إخبار بما حرم عليهم: {وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر}، يعني ما ليس بمنفرج الأصابع كالإبل وما في معناها.
ومنها: استباحة أكل الشحم خلا شحم الظهر، وهو ما علا فإنه مباح لهم؛ وعن ذلك أخبر الله تعالى بقوله: ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما.
ومنها: استباحة أكل الحوايا. قال ابن عباس وغيره: هي المباعر. وقال أبو عبيدة: هي ما تحوى من البطن أي استدرار، والمراد شحم الثرب. وكذلك استباحة ما اختلط من الشحم بعظم وهو شحم الألية، وعنه أخبر تعالى بقوله: أو الحوايا أو ما اختلط بعظم عطفاً على الشحوم المحرمة. على أن بعض المفسرين قد عطف قوله تعالى: {أو الحوايا أو ما اختلط بعظم} على المستثنى في قوله: {إلا ما حملت ظهورهما}، فحمله على الاستباحة؛ والموافق لما يدعونه الأول، ويرون أن سبب نزول هذه الآية أن اليهود قالوا لم يحرم علينا شيء إنما حرم إسرائيل على نفسه الثرب وشحم الألية فنحن نحرمه، فنزلت. على أن اليهود القرائين والربانيين يجملونها فيبيعونها ويأكلون ثمنها، ويتأولون أن آكل ثمنها غير آكل منها، وإلى ذلك الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم: «قاتل الله اليهود؟؟! حرمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا ثمنها» والسامرة مخالفون في ذلك، ويقولون بتحريم الثمن أيضاً، على ما سيأتي ذكره.
وليعلم أن القرائين والربانيين يحرمون من الذبيحة كل ما كانت رئته ملتصقة بقلبه أو بضلعه، والسامرة لا يحرمون ذلك.
ومنها: مقالة أهل بابل في إبراهيم عليه السلام، وهي قولهم إنه لمن الظالمين في تكسير أصنامهم.
ومنها: أن يحرم الأحبار الذين هم علماؤهم على الواحد منهم، بمعنى أنهم يمنعونه من مباحاتهم في المآكل والمشارب والنكاح وغير ذلك حرمة يجمعون عليها، وتتأكد بقلب حصر الكنائس عليها؛ إذ من عادتهم أنهم إذا حرموا على شخص وأرادوا التشديد عليه قلبوا حصر الكنائس عند التحريم تغليظاً على المحرم عليه.
ومنها: الرجوع إلى التيه بعد الخروج منه؛ فإنهم إنما خرجوا إليه عند سخط الله تعالى عليهم بمخالفة موسى عليه السلام عند امتناعهم عما أمروا به من قتال الجبارين، كما أخبر تعالى عن ذلك بقوله: {قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين} قال المفسرون: وكان تيههم ستة فراسخ في أربعة فراسخ، يمشون كل يوم ويبيتون حيث يصبحون؛ فأمر الله تعالى موسى عليه السلام فضرب الحجر بعصاه فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً، وكانوا اثني عشر سبطاً لكل سبط عين؛ فإذا أخذوا حاجتهم من الماء احتبس وحملوا الحجر معهم، وكانت ثيابهم فيما يروى لا تخرق ولا تتدنس، وتطول كلما طال الصبيان.
ومنها: تحريم المن والسلوى الذي امتن الله تعالى عليهم به كما أخبر بذلك بقوله تعالى: {وظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المن والسلوى}. ويقال إنه الترنجبين. وقال ابن عباس: والمراد بالمن الذي يسقط على الشجر وهو معروف. قال قتادة: كان المن يسقط عليهم من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس كسقوط الثلج، فيأخذ الرجل منهم ما يكفيه ليومه، فإن أخذ أكثر من ذلك فسد. وأما السلوى، فقيل: هي طائر كالسمانى، وقال الضحاك: هي السمانى نفسها، وقال قتادة: هو طائر إلى الحمرة كانت تحشره عليهم الجنوب.
ومنها: التبرؤ من الأسباط: وهم أولاد يعقوب عليهم السلام، وعددهم اثنا عشر سبطاً: وهم يوسف، وبنيامين، ونفتالي، وروبيل، ويهوذا، وشمعون، ولاوي، ودان وربولي، ويشجر، وجاد، وأشر؛ ومنهم تفرع جميع بني إسرائيل ولد كل منهم أمة من الناس. وسموا أسباطاً أخذاً من السبط وهو التتابع، إذ هم جماعة متتابعون. وقيل: من السبط وهو الشجر، فالسبط الجماعة الراجعون إلى أصل واحد.
ومنها: القعود عن حرب الجبارين مع القدرة على حربهم: وذلك أنهم أمروا بدخول الأرض المقدسة: وهي بيت المقدس فيما قاله ابن عباس والسدي وغيرهما، والشام فيما قاله قتادة، ودمشق وفلسطين وبعض الأردن فيما قاله الزجاج، وأرض الطور فيما قاله مجاهد؛ وكان فيها قوم جبارون من العمالقة كما أخبر الله تعالى؛ والجبار هو المتعظم الممتنع من الذل والقهر أخذاً من الإجبار: وهو الإكراه كأنه يجبر غيره على ما يريد.
قال ابن عباس: لما بعث موسى عليه السلام من قومه اثني عشر نقيباً ليخبروه خبرهم، رآهم رجل من الجبارين فأخذهم في كمه مع فاكهة كان قد حملها من بستانه وجاء بهم إلى الملك فنثرهم بين يديه، وقال: إن هؤلاء يريدون قتالنا؛ وكان من أمرهم ما قصه الله تعالى في كتابه بقوله: {وإذ قال موسى لقومه يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين * قالوا يا موسى إن فيها قوماً جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون * قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون * وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين * قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبداً ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون * قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين}. فكان في قعودهم عن حرب الجبارين مع القدرة والنشاط مخالفة لما أمروا به.
وقد رتبوا في التعريف أيمان اليهود على هذا المقتضى، فقال: ويمينهم: إنني والله والله والله العظيم، القديم الأزلي الفرد الصمد الواحد الأحد المدرك المهلك، باعث موسى بالحق، وشاد أزره بأخيه هارون، وحق التوراة المكرمة وما فيها وما تضمنته، وحق العشر كلمات التي أنزلت على موسى في الصحف الجوهر، وما حوته قبة الزمان، وإلا تعبدت فرعون وهامان، وبرئت من بني إسرائيل، ودنت بدين النصرانية، وصدقت مريم في دعواها، وبرأت يوسف النجار، وأنكرت الخطاب، وتعمدت الطور بالقاذورات، ورميت الصخرة بالنجاسة، وشركت بختنصر في هدم بيت المقدس وقتل بني إسرائيل، وألقيت العذرة على مظان الأسفار، وكنت ممن شرب من النهر ومال إلى جالوت، وفارقت شيعة طالوت، وأنكرت الأنبياء، ودللت على دانيال، وأعلمت جبار مصر بمكان إرمياء، وكنت مع البغي والفواجر يوم يحيى، وقلت: إن النار المضيئة من شجرة العوسج نار إفك، وأخذت الطرق على مدين، وقلت بالعظائم في بنات شعيب، وأجبلت مع السحرة على موسى، ثم برئت ممن آمن منهم، وكنت مع من قال: اللحاق اللحاق لندرك من فر، وأشرت بتخليف تأبوت يوسف في مصر، وسلمت إلى السامري، ونزلت أريحا مدينة الجبارين، ورضيت بفعل سكنة سذوم، وخالفت أحكام التوراة، واستبحت السبت وعدوت فيه، وقلت إن المظلة ضلال، وإن الحنكة محال، وقلت بالبداء على الله تعالى في الأحكام، وأجزت نسخ الشرائع، واعتقدت أن عيسى بن مريم المسيح الموعود به على لسان موسى بن عمران، وانتقلت عن اليهودية إلى سواها من الأديان، واستبحت لحم الجمل والشحم والحوايا أو ما اختلط بعظم، وتأولت أن آكل ثمنه غير آكله، وقلت مقالة أهل بابل في إبراهيم، وإلا أكون محرماً حرمة تجمع عليها الأحبار، وتقلب عليها حصر الكنائس، ورددت إلى التيه، وحرمت المن والسلوى، وبرئت من كل الأسباط، وقعدت عن حرب الجبارين مع القدرة والنشاط.
قال: قوله في هذه اليمين في حرمة الشحم وما في معناه: وتأولت أن آكل ثمنه غير آكله، بمعنى أنه يستعظم الوقوع في تأول ذلك، وهو خلاف معتقدهم: لأنهم يتأولون أن آكل ثمنه غير آكله كما تقدم عنهم، وإنما تمنع ذلك السامرة، فكان من حقه أن يورد ذلك في يمين السامرة وأن يقول هنا: ولم أتأول أن آكل ثمنه غير آكله فتنبه لذلك.
واعلم أن أول ما استحدثت هذه الأيمان لأهل دين اليهودية فيما ذكره محمد بن عمر المدائني في كتاب القلم والدواة في زمن الفضل بن الربيع وزير الرشيد، أحدثها كاتب له قال له: كيف تحلف اليهودي قال: أقول له: وإلا برئت من إلهك الذي لا تعبد غيره ولا تدين إلا له، ورغبت عن دينك الذي ارتضيته، وجحدت التوراة وقلت: إن حمار العزيز راكب جمل موسى، ولعنك ثمانمائة حبر على لسان داود وعيسى بن مريم، ومسخك الله كما مسخ أصحاب السبت فجعل منهم القردة والخنازير، وخالفت ما دونه دانيال وأشلوما ويوحنا، ولقيت الله بدم يحيى بن زكريا، وهدمت الطور صخرة صخرة، وضربت بالناقوس في بيت المقدس، وتبرأ منك الأسباط وآباؤهم: إسرائيل، وإسحاق، وإبراهيم، وغمست لحية الجاثليق في معمودية النصارى، وانقلبت عن السبت إلى الأحد، وإلا قدر الله لك أن تلقى الذي يخرج من الماء ليلة السبت، وصير الله طعامك لحم الخنزير وكروش الجمال ومعد الخنازير، وسلط الله عليك وعلى أهلك بختنصر ثانية يقتل المقاتلة ويسبي الذرية ويخرب المدائن، وأراك الله الأيدي التي تنال الركب من قبيل الأسباط، وآخذك الله بكل لسان جحدته وبكل آية حرفتها، وقلت في موسى الزور، وإنه في محل ثبور، وفي دار غرور، وجحدت إهيا أشر إهيا أصبئوت آل شداء. وهذه اليمين لازمة لك ولبنيك إلى يوم القيامة.
قلت: هذه اليمين في غاية الإتقان والتشديد، إلا أن قوله: وآخذك الله بكل لسان جحدته وبكل آية حرفتها غير مناسب لتحليفهم: لأنهم يرون أن لا إثم عليهم في الجحد ولا يعترفون بالتحريف بل ينكرونه. على أن أكثرها غير متوارد على اليمين التي أوردها في التعريف: فلو ألحقها بها ملحق في آخرها على صيغة اليمين الأولى من إيرادها بصيغة التكلم، مثل أن يقول: وإلا برئت من إلهي الذي لا أعبد غيره ولا أدين إلا له، وألا رغبت عن ديني الذي ارتضيته، وعلى ذلك في الباقي، لكان حسناً.
الطائفة الثانية من اليهود: السامرة:
وهم أتباع السامري الذي أخبر الله تعالى عنه بقوله في سورة الأعراف: وأضلهم السامري. قال بعض المفسرين: واسمه موسى بن ظفر، وكان أصله من قوم يعبدون البقر فرأى جبريل عليه السلام مرة وقد جاء إلى موسى راكباً على فرس الحياة، فأخذ قبضة من تراب من تحت حافر فرسه. وكان بنو إسرائيل قد خرجوا معهم حلي استعاروه من القبط، فأمرهم هارون أن يحفروا حفرة ويلقوا فيها ذلك الحلي حتىيأتي موسى فيرى فيه رأيه، فجمعوا ذلك الحلي كله وألقوه في تلك الحفرة، فجاء السامري فألقى ذلك التراب عليه، وقال له: كن عجلاً جسداً له خوار، فصار كذلك. قال الحسن: صار حيواناً لحماً ودماً. وقيل: بل صار يخور ولم تنقلب عينه. فقال لهم السامري: هذا إلهكم وإله موسى، فعكفوا على عبادته، ونهاهم هارون فلم ينتهوا فجاء موسى وحرق العجل وذراه في اليم كما أخبرا عنه بقوله: {وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفاً لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفاً}. فأمروا بتل أنفسهم كما أخبر تعالى بقوله: {فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم} الآية. فقيل منهم سبعون ألفاً ثم رفع عنهم القتل بعد ذلك.
وقد اختلف في السامرة: هل هم من اليهود أم لا؟ والقراؤون والربانيون ينكرون كون السامرة من اليهود. وقد قال أصحابنا الشافعية رحمهم الله: إنهم إن وافقت أصولهم أصول اليهود فهم منهم حتى يقروا بالجزية وإلا فلا.
ثم السامرة لهم توراة تختصهم غير التوراة التي بيد القرائين والربانيين، والتوراة التي بيد النصارى؛ وهم ينفردون عن القرائين والربانيين بإنكار نبوة من بعد موسى ما عدا هارون ويوشع عليهما السلام، ويخالفونهم أيضاً في استقبال صخرة بيت المقدس، ويستقبلون طور نابلس ويوجهون إليه موتاهم، زاعمين أنه الذي كالم الله تعالى موسى عليه، ويزعمون أن الله تعالى أمر داوود عليه السلام ببناء بيت المقدس عليه، فخالف وبناه في بالقدس: {قاتلهم الله أنى يؤفكون.} وهم قائلون أيضاً: إن الله تعالى هو خالق الخلق الباريء لهم، وإنه قادر قديم أزلي. ويوافقون على نبوة موسى وهارون عليهما السلام، وأن الله تعالى أنزل عليه التوراة، إلا أن لهم توراة تخصهم تخالف توراة القرائين والربانيين المتقدمة الذكر، وأنه أنزل عليه أيضاً الألواح الجوهر المتضمنة للعشر كلمات المتقدمة الذكر، ويقرون أن الله تعالى هو الذي أنقذ بني إسرائيل من فرعون ونجاهم من الغرق، ويقولون: أنه نصب طور نابلس المقدم ذكره قبلة للمتعبد.
ويستعظمون الكفر بالتوراة التي هم يعترفون بها، والتبري من موسى عليه السلام دون غيره من بني إسرائيل، ويعظمون طورهم طور نابلس المقدم ذكره، ويستعظمون دكه وقلع آثار البيت الذي عمر به، ويستعظمون استباحة السبت كغيرهم من اليهود، ويوافقون القرائين في الوقت مع ظواهر نصوص التوراة، ويمنعون القول بالتأويل الذاهب إليه الربانيون من اليهود، وينكرون صحة توراة القرائين والربانيين، ويجعلون الاعتماد على توراتهم، ويقولون: لا مساس: بمعنى أنه لا يمس أحداً ولا يمسه. قال في الكشاف: كان إذا مس أحداً أو مسه أحد حصلت الحمى للماس والممسوس وقد أخبر الله تعالى عن ذلك بقوله تعالى حكاية عن موسى عليه السلام للسامري. اذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس ويحرمون من الذبائح.........، ويحزمون أكل اللحم مختلطاً بلبن، زاعمين أن في توراتهم النهي عن أكل لحم الجدي بلبن أمه؛ ويستعظمون السعي إلى الخروج إلى الأرض التي حرم عليهم سكناها وهي مدينة أريحا. ومن أكبر الكبائر عندهم وطء المرأة الحائض، والنوم معها في مضجع واحد لا سيما إذا فعل ذلك مستبيحاً له. ومن أعظم العظائم عندهم إنكار خلافة هارون عليه السلام، والأنفة من كونها.
وقد رتب في التعريف: يمينهم على مقتضى ذلك، فذكر أن يمينهم: إنني والله والله والله العظيم، الباريء، القادر، القاهر، القديم، الأزلي، رب موسى وهارون، منزل التوراة والألواح الجوهر، منقذ بني إسرائيل، وناصب الطور قبلة للمتعبدين، وإلا كفرت بما في التوراة، وبرئت من نبوة موسى، وقلت: إن الإمامة في غير بني هارون، ودكيت الطور، وقلعت بيدي أثر البيت المعمور، واستبحت حرمة السبت، وقلت بالتأويل في الدين، وأقررت بصحة توراة اليهود، وأنكرت القول بأن لا مساس، ولم أتجنب شيئاً من الذبائح، وأكلت الجدي بلبن أمه، وسعيت في الخروج إلى الأرض المحظور علي سكنها، وأتيت النساء الحيض زمان الطمث مستبيحاً لهن، وبت معهن في المضاجع، وكنت أول كافر بخلافة هارون، وأنفت منها أن تكون.
الملة الثالثة ممن تدعو الضرورة إلى تحلفه: النصرانية:
وقد اختلف في اشتقاقها، فقيل: أخذاً من قول المسيح للحواريين: {من أنصاري إلى الله}. وقيل: من نزوله هو وأمه- بعد عودها من مصر- بالناصرة: وهي قرية من بلاد فلسطين من الشام: وقيل غير ذلك. والنصارى- هم أمة عيسى عليه السلام، وكتابهم الإنجيل. وقد اختلف في اشتقاقه على ثلاثة وذاهب حكاها أبو جعفر النحاس في صناعة الكتاب: أحدها- أنه مأخوذ من قولهم: نجلت الشيء إذا أخرجته، بمعنى أنه خرج به دارس من الحق.
والثني- أنه مأخوذ من قولهم: تناجل القوم إذا تنازعوا، لأنه لم يقع في كتاب من الكتب المنزلة مثل التنازع الواقع فيه. قاله أبو عمرو الشيباني.
والثالث- أنه مأخوذ من النجل بمعنى الأصل: لأنه أصل العلم الذي أطلع الله تعالى فيه خليقته عليه، ومنه قيل للوالد نجل: لأنه أصل لولده.
ثم ذكر هذه الاشتقاقات جنوح من قائلها إلى أن لفظ الإنجيل عربي، والذي يظهر أنه عبراني: لأن لغة عيسى عليه السلام كانت العبرانية؛ وقد قال صاحب إرشاد المقاصد: إن معنى الإنجيل عندهم البشارة.
واعلم أن النصارى بجملتهم مجمعون على أن مريم حملت بالمسيح عليه السلام، وولدته ببيت لحم من بلاد القدس من الشام، وتكلم بالمهد، وإن اليهود حين أنكروا على مريم عليها السلام ذلك فرت بالمسيح عليه السلام إلى مصر، ثم عادت به إلى الشام، وعمره اثنتا عشرة سنة، فنزلت به القرية المسماة ناصرة المقدم ذكرها، وأنه في آخر أمره قبض عليه اليهود وسعوا به إلى عامل قيصر ملك الروم على الشام، فقتله وصلبه يوم الجمعة، وأقام على الخشبة ثلاث ساعات، ثم استوهبه رجل من أقارب مريم اسمه يوسف النجار من عامل قيصر، ودفنه في قبر كان أعده لنفسه في مكان الكنيسة المعروفة الآن بالقمامة بالقدس، وأنه مكث في قبره ليلة السبت ونهار السبت وليلة الأحد، ثم قام من صبيحة يوم الأحد، ثم رآه بطرس الحواري وأوصى إليه؛ وأن أمه جمعت له الحواريين فبعثهم رسلاً إلى الأقطار للدعاية إلى دينه، وهم في الأصل اثنا عشر حوارياً: بطرس ويقال له: سمعان، وشمعون الصفا أيضاً، وأندراوس وهو أخو بطرس المقدم ذكره، ويعقوب بن زيدي، ويوحنا الإنجيلي، وهو أخو أندراوس، وفيلبس، وبرتلوماوس، وتوما: ويعرف بتوما الرسول، ومتى ويعرف بمتى العشار، ويعقوب بن حلفا، وسمعان القناني، ويقال له شمعون أيضاً، وبولس ويقال له تداوس، وكان اسمه في اليهودية شأول، ويهوذا الأسخريوطي وهو الذي دل يهود على المسيح حتى قبضوا عليه بزعمهم وقام مقامه بنيامين، ويقولون: إنه بعد أن بعث من بعث من الحواريين صعد إلى السماء. وهم متفقون على أن أربعة من الحواريين تصدوا لكتابة الإنجيل: وهم بطرس، ومتى، ولوقا، ويوحنا، فكتبوا في سيرة المسيح من حين ولادته إلى حين رفعه، وكتب كل منهم نسخة على ترتيب خاص بلغة من اللغات.
فكتب بطرس إنجيله باللغة الرومية في مدينة رومية قاعدة بلاد الروم، ونسبه إلى تلميذه مرقس أول بطاركة الإسكندرية، ولذلك يعرف بمرقس الإنجيلي، وقيل: إن الذي كتبه مرقس نفسه. وكتب متى إنجيله بالعبرانية في بيت المقدس، ونقله بعد ذلك يوحنا بن زيدي إلى اللغة الرومية. وبعث به إلى بعض أكابر الروم، وقيل: بل كتبه باليونانية بمدينة أفسس، وقيل مدينة رومية.
قال الشهرستاني: وخاتمة إنجيل متى: إني أرسلكم إلى الأمم كما أرسلني أبي إليكم، فاذهبوا وادعوا الأمم باسم الأب والابن وروح القدس، ثم اجتمع برومية من توجه إليها من الحواريين ودنوا قوانين دين النصرانية على يد إقليمش تلميذ بطرس الحواري، وكتبوا عدد الكتب التي يجب قبولها والعمل بمقتضاها، وهي عدة كتب: منها الأناجيل الأربعة المتقدمة الذكر، والتوراة التي بأيديهم، وجملة كتب من كتب الأنبياء الذين قبل المسيح عليه السلام، كيوشع بن نون، وأيوب، وداود، وسليمان، عليهم السلام، وغيرهم.
ثم لما مات الحواريون أقام النصارى لهم خلائف، عبر عنهم بالبطاركة جمع بطرك، وهي كلمة يونانية مركبة من لفظين، أحدهما بطر ومعناه.......، والثانية يرك ومعناه.......، ورأيت في ترسل العلاء بن موصلايا: كاتب القائم بأمر الله العباسي فطرك بإبدال الباء فاء، والعامة يقولون: بترك بإبدال الطاء تاء، وهو عندهم خليفة المسيح، والقائم بالدين فيهم.
وقد كان لبطاركتهم في القديم خمسة كراسي، لكل كرسي منها بطرك. الأول منها بمدينة رومية، والقائم به خليفة بطرس الحواري المتوجه إليها بالبشارة؛ والثاني بمدينة الإسكندرية، والقائم به خليفة مرقس تلميذ بطرس الحواري المقدم ذكره وخليفته بها؛ والثالث بمدينة بزنطية: وهي القسطنطينية؛ والرابع بمدينة أنطاكية من العواصم التي هي في مقابلة حلب الآن؛ والخامس بالقدس. وكان أكبر هذه الكراسي الخمسة كرسي رومية لكونه محل خلافة بطرس الحواري، ثم كرسي الإسكندرية، لكونه كرسي مرقس خليفته.
ثم اصطلحوا بعد ذلك على أسماء وضعوها على أرباب وظائف دياناتهم، فعبروا عن صاحب المذهب بالبطريق، وعن نائب البطرك بالأسقف، وقيل الأسقف عندهم بمنزلة المفتي، وعن القاضي بالمطران، وعن القاريء بالقسيس، وعن صاحب الصلاة وهو الإمام بالجاثليق، وعن قيم الكنيسة بالشماس، وعن المنقطع إلى المولى للعبادة بالراهب.
وكانت الأساقفة يسمون البطرك أباً، والقسوس يسمون الأسقف أباً، فوقع الاشتراك عندهم في اسم الأب، فوقع اللبس عليهم، فاخترعوا لبطرك الإسكندرية اسم الباب، ويقال فيه البابا بزيادة ألف، والبابه بإبدال الألف هاء، ومعناه عندهم أبو الآباء: لتمييز البطرك عن الأسقف، فاشتهر بهذا الاسم، ثم نقل اسم الباب إلى بطرك رومية لكونه خليفة بطرس الحواري؛ وبفي اسم البطرك على بطرك الإسكندرية وغيره من أصحاب الكراسي.
واعلم أن النصارى مجمعون على أن الله تعالى واحد بالجوهر ثلاثة بالأقنومية؛ ويفسرون الجوهر بالذات والأقنومية بالصفات: كالوجود والعلم والحياة؛ ويعبرون عن الذات مع الحياة بروح القدس؛ ويعبرون عن الإله باللاهوت، وعن الإنسان بالناسوت؛ ويطلقون العلم على الكلمة التي ألقيت إلى مريم عليها السلام فحملت منها بالمسيح عليه السلام؛ ويخصونه بالاتحاد دون غيره من الأقانيم.
واجتمع منهم ثلثمائة وثمانية عشر، وقيل وسبعة عشر أسقفاً من أساقفتهم بمدينة نيقية من بلاد الروم بحضرة قسطنطين ملك الروم عند ظهور أريوش الأسقف وقوله: إن المسيح مخلوق، وإن القديم هو الله تعالى، وألفوا عقيدة استخرجوها من أناجيلهم لقبوها بالأمانة، من خرج عنها خرج عن دن النصرانية؛ ونصها على ما ذكره الشهرستاني في النحل والملل، وابن العميد مؤرخ النصارى في تاريخه ما صورته: نؤمن بالله الواحد الأب، مالك كل شيء، وصانع ما يرى وما لا يرى، وبالابن الواحد أيشوع المسيح ابن الله، بكر الخلائق كلها، وليس بمصنوع، إله حق من إله حق من جوهر أبيه الذي بيده أتقنت العوالم وكل شيء، الذي من أجلنا ومن أجل خلاصنا نزل من السماء، وتجسد بروح القدس، وولد من مريم البتول، وصلب أيام فيلاطوس، ودفن ثم قام في اليوم الثالث وصعد إلى السماء، وجلس عن يمين أبيه، وهو مستعد للمجيء تارة أخرى للقضاء بين الأموات والأحياء. ونؤمن بروح القدس الواحد الحي الذي يخرج من أبيه، وبمعمودية واحدة لغفران الخطايا، وبجماعة واحدة قدسية مسيحية جاثليقية، وبقيام أبداننا، وبالحياة الدائمة أبد الآبدين.
ووضعوا معها قوانين لشرائعهم سموها الهيمانوت. ثم اجتمع منهم جمع بقسطنطينية عند دعوى مقدونيوس المعروف بعدو روح القدس، وقوله: إن روح القدس مخلوق، وزادوا في الأمانة المتقدمة الذكر ما نصه: ونؤمن بروح القدس المحيي المنبثق من الأب، ولعنوا من يزيد بعد ذلك على كلام الأمانة أو ينقص منها.
وافترق النصارى بعد ذلك إلى فرق كثيرة، المشهور منها ثلاث فرق:
الفرقة الأولى: الملكانية:
قال الشهرستاني: وهم أتباع ملكان الذي ظهر ببلاد الروم؛ ومقتضى ذلك أنهم منسوبون إلى مركان قيصر أحد قياصرة الروم، من حيث إنه كان يقوم بنصرة مذهبهم، فقيل لهم مركانية، ثم عرب ملكانية؛ ومعتقدهم أن جزءاً من اللاهوت حل في الناسوت، ذاهبين إلى أن الكلمة، وهي أقنوم العلم عندهم، اتحدت بجسد المسيح وتدرعت بناسوته ومازجته ممازجة الخمر اللبن أو الماء اللبن؛ لا يسمون العلم قبل ترعه ابناً، بل المسيح وما تدرع به هو الابن؛ ويقولون: إن الجوهر غير الأقانيم كما في الموصوف والصفة، مصرحين بالتثليث، قائلين بأن كلاً من الأب والابن وروح القدس إله، وإليهم وقعت الإشارة بقوله تعالى: {لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة}. وهم يقولون: إن المسيح قديم أزلي من قديم أزلي، وإن مريم ولدت إلهاً أزلياً، فيطلقون الأبوة والبنوة على الله تعالى وعلى المسيح حقيقة، متمسكين بظاهر ما يزعمون أنه وقع في الإنجيل من ذكر الأب والابن: {تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هداً * أن دعوا للرحمن ولداً * وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولداً * إن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبداً}.
ثم هم يقولون: إن المسيح ناسوت كلي لا جزئي، وإن القتل والصلب وقعا على الناسوت واللاهوت معاً كما نقله الشهرستاني في النحل والملل وإن كان الشيخ شمس الدين بن الأكفاني في كتابه إرشاد القاصد قد وهم فنقل عنهم القول بأن الصلب وقع على الناسوت دون اللاهوت.
ومن معتقدهم أيضاً أن المعاد والحشر يكون بالأبدان والأرواح جميعاً، كما تضمنته الأمانة المتقدمة، وأن في الآخرة التلذذات الجسمانية بالأكل والشرب والنكاح وغير ذلك كما يقوله المسلمون.
ومن فروعهم أنهم لا يختتنون، وربما أكل بعضهم الميتة. وممن تمذهب بمذهب الملكانية الروم والفرنجة ومن والاهم.
والملكانية يدينون بطاعة الباب: وهو بطرك رومية المقدم ذكره، قال في الروض المعطار: من قاعدة الباب أنه إذا اجتمع به ملك من ملوك النصارى ينبطح على بطنه بين يديه، ولا يزال يقبل رجليه حتى يكون هو الذي يأمره بالقيام.
الفرقة الثانية: اليعقوبية:
وهم أتباع ديسقرس بطرك الإسكندرية في القديم: وهو الثامن من بطاركتها من حين بطركية مرقس الإنجيلي نائب بطرس الحواري بها. قال ابن العميد في تاريخه: وسمي أهل مذهبه يعقوبية: لأن اسمه كان في الغلمانية يعقوب. وقيل: بل كان له تلميذ اسمه يعقوب فنسبوا إليه. وقيل: بل كان شاويرش بطرك أنطاكية على رأي ديسقرس، وكان له غلام اسمه يعقوب فكان يبعثه إلى أصحابه: أن اثبتوا على أمانة ديسقرس فنسبوا إليه. وقيل: بل نسبوا إلى يعقوب البردغاني تلميذ سويرس بطرك أنطاكية، وكان راهباً بالقسطنطينية فكان يطوف في البلاد ويدعو إلى مذهب ديسقرس. قال ابن العميد: وليس ذلك فإن اليعاقبة ينسبون إلى ديسقرس قبل ذلك بكثير، ومعتقدهم أن الكلمة انقلبت لحماً ودماً فصار الإله هو المسيح.
ثم منهم من قال إن المسيح هو الله تعالى. قال المؤيد صاحب حماة: ويقولون مع ذلك إنه قتل وصلب ومات وبفي العلم ثلاثة أيام بلا مدبر. ومنهم من يقول: ظهر اللاهوت بالناسوت، فصار ناسوت المسيح مظهر الحق لا على طريق حلول جزء فيه، ولا على سبيل اتحاد الكلمة التي هي في حكم الصفة، بل صار هو هو، كما يقال: ظهر الملك بصورة إنسان، وظهر الشيطان بصورة حيوان، وكما أخبر التنزيل عن جبريل عليه السلام بقوله تعالى: {فتمثل لها بشراً سوياً}.
وأكثرهم يقول: إن المسيح جوهر واحد إلا أنه من جوهرين، وربما قالوا طبيعة واحدة من طبيعتين.
فجوهر الإله القديم وجوهر الإنسان المحدث تركبا تركب النفس والبدن فصارا جوهراً واحداً أقنوماً واحداً، وهو إنسان كله وإله كله، فيقال: الإنسان صار إلهاً ولا ينعكس، فلا يقال: الإله صار إنساناً، كالفحمة تطرح في النار فيقال: صارت الفحمة ناراً، ولا يقال: صارت النار فحمة؛ وهي في الحقيقة لا نار مطلقة، بل هي جمرة.
ويقولون: إن الكلمة اتحدت بالإنسان الجزئي لا الكلي، وربما عبروا عن الاتحاد بالامتزاج والادراع والحلول، كحلول صورة الإنسان في المرآة.
ومنهم من يقول: عن الكلمة لم تأخذ من مريم شيئاً لكنها مرت بها كمرور الماء بالميزاب، وإن ما ظهر من شخص المسيح عليه السلام في الأعين هو كالخيال والصورة في المرآة، وإن القتل والصلب إنما وقعا على الخيال.
وزعم آخرون منهم أن الكلمة كانت تداخل جسد المسيح أحياناً فتصدر عنه الآيات: من إحياء الموتى، وإبراء الأكمة والأبرص؛ وتفارقه في بعض الأوقات فترد عليه الآلام والأوجاع. ثم هم يقولون: إن المعاد إنما هو روحاني فيه لذة وراحة وسرور، ولا أكل ولا شرب ولا نكاح.
ومن فروعهم أنهم يختتنون، ولا يأكلون إلا بعد التذكية. وقد حكى ابن العميد مؤرخ النصارى أن ديسقرس صاحب مذهب اليعقوبية حين ذهب إلى ما ذهب: من مذهبه المقدم ذكره، رفع أمره إلى مركان قيصر الروم يومئذ، فطلبه إلى مدينة خلقدونية من بلاد الروم، وجمع له ستمائة وأربعة وثلاثين أسقفاً، وناظروه بحضرة الملك فسقط في المناظرة، فكلمته زوجة الملك فأساء الرد فلطمته بيدها، وتنأوله الحاضرون بالضرب، وأمر بإخراجه؛ فسار إلى القدس، فأقام به وأتبعه أهل القدس وفلسطين ومصر والإسكندرية؛ وقد أتبعه على ذلك أيضاً النوبة والحبشة، وهم على ذلك إلى الآن.
الفرقة الثالثة: النسطورية:
ومقتضى كلام ابن العميد أنهم أتباع نسطوريوس بطرك القسطنطينية. ويحكى عنه أن من مذهبه أن مريم عليها السلام لم تلد إلهاً، وغنما ولدت إنساناً، وإنما اتحد في المشيئة لا في الذات، وأنه ليس إلهاً حقيقة بل بالموهبة والكرامة. ويقولون بجوهرين وأقنومين، وإن كرلس بطرك الإسكندرية وبطرك رومية خالفاه في ذلك، فجمعا له مائتي أسقف بمدينة أفسس وأبطلوا مقالة نسطوريوس وصرحوا بكفره، فنفي إلى إخميم من صعيد مصر ومات بها. فظهر مذهبه في نصارى المشرق: من الجزيرة الفراتية والموصل والعراق وفارس.
والذي ذكره الشهرستاني في النحل والملل انهم منسوبون إلى نسطور الحكيم الذي ظهر في زمان المأمون، وتصرف في الأناجيل بحكم رأيه، وقال: إن الله تعالى واحد ذو أقانيم ثلاثة: الوجود والعلم والحياة؛ وإن هذه الأقانيم ليست بزائدة على الذات ولا هي هي، وإن الكلمة اتحدت بجسد المسيح عليه السلام لا على طريق الظهور كما قالته اليعقوبية، ولكن كإشراق الشمس في كوة، أو كظهور النقش في الخاتم؛ قال الشهرستاني: ويعني بقوله إنه واحد بالجوهر أنه ليس مركباً من جنس بل هو بسيط واحد. ويعني بالحياة والعلم أقنومين جوهرين أي أصلين مبدأين للعالم. قال: ومنهم من يثبت لله تعالى صفات زائدة على الوجود والحياة والعلم: كالقدرة والإرادة ونحوهما. ومنهم من يطلق القول بأن كل واحد من الأقانيم الثلاثة حي ناطق إله، ومنهم من يقول: إن الإله واحد، وإن المسيح ابتدأ من مريم عليها السلام، وإنه عبد صالح مخلوق، خلقه الله تعالى وسماه ابناً على التبني لا على الولادة والاتحاد. ثم هم يخالفون في القتل والصلب مذهب الملكانية واليعقوبية جميعاً، فيقولون: القتل والصلب وقعا على المسيح من جهة ناسوته لا من جهة لاهوته: لأن الإله لا تحله الآلام. قال صاحب حماة: وهم عند النصارى كالمعتزلة عندنا.
وليعلم أن للنصارى أشياء يعظمونها وأشياء يستعظمون الوقوع فيها.
فأما التي يعظمونها فإنهم يعظمون المسيح عليه السلام حتى انتهوا فيه إلى ما انتهوا: من دعوة الألوهية والبنوة لله سبحانه، تعالى الله عما يشركون، واسمه عنهم أيشوع فعرب عيسى، وإنما سمي المسيح لكونه ممسوح القدمين لا أخمص له.
ويعظمون مريم عليها السلام لولادتها المسيح عليه السلام، ويعبرون عنها بالسيدة، وبالبتول، وبالعذراء. ويعظمون مريحنا المعمدان، وهم عندهم يحيى بن زكريا عليه السلام، ومعنى مر السيد، ويحنا يعني يحيى؛ ويسمونه المعمدان لأنهم يزعمون أن مريم عليها السلام حين عودها من مصر إلى الشام ومعها السيد المسيح تلقاه يحيى عليه السلام فعمده في نهر الأردن من بلاد فلسطين، يعني غمسه فيه، ويجعلون ذلك أصلاً للمعمودية: وهو الماء الذي يغمسون فيه عند تنصرهم، ويقولون: إنه لا يصح تنصر نصراني دون تعمد، ولماء المعمودية بذلك عندهم من التعظيم ما لا فوقه. وبعضهم يقول: إن المراد بمريحنا المعمدان غير يحيى بن زكريا عليهما السلام.
ويعظمون الحواريين: وهم أصحاب المسيح عليه السلام. وقد تقدم أن عدتهم اثنا عشر حوارياً، ومعنى الحواري الخاص، ومنه قيل للدقيق الناصع البياض دقيق حوارى، سموا بذلك لأن المسيح عليه السلام استخلصهم لنفسه.
ويعظمون البطاركة لأنهم خلفاء الدين عندهم، ويرون لهم من الحرمة ما لدين النصرانية عندهم من الحرمة، بل يجعلون أمر التحليل والتحريم منوطاً بهم، حتى لو حرم البطرك على أحدهم زوجته لم يقربها حتى يحلها له. وسيأتي ما لبطرك اليعقوبية عند صاحب الحبشة من الحرمة عند ذكر المكاتبة إليه فيما بعد، إن شاء الله تعالى. وكذلك يعظمون أرباب الوظائف الدينية عندهم: من البطريق، والأسقف، والمطران، والقسيس، والشماس، والراهب؛ وقد تقدم تفسيرهم فيما مر ويعظمون يوسف النجار: وهو قريب لميم عليها السلام، يقال: إنه ابن عمها، كان معها في خدمة بيت المقدس، وهو الذي استوهب المسيح بعد الصلب بزعمهم حتى دفنه. واليهود يرمون مريم عليها السلام معه بالفجور على ما تقدم.
ويعظمون مريم المجدلانية المقدم ذكرها، ويزعمون أنها...... أخرج منها سبعة شياطين، وأنها أول من رأى المسيح حين قام من قبره.
ومن عادتهم أنه إذا مات منهم أحد ممن يعتقدون صلاحه صوروا صورته في حيطان كنائسهم ودياراتهم يتبركون بها.
ويعظمون قسطنطين بن قسطنطين ملك الروم، وذلك أنه أول من أخذ بدين النصرانية من الملوك وحمل على الأخذ به. وقد اختلف في سبب ذلك فقيل: إنه كان يحارب أمة البرجان بجواره وقد أعجزه أمرهم، فرأى في المنام كأن ملائكة نزلت من السماء ومعها أعلام عليها صلبان، فعمل على مثالها وحاربهم بها فظهر عليهم. وقيل بل رأى صورة صليب في السماء. وقيل: بل حماته أمه هيلاني على ذلك.
ويعظمون هيلاني أم قسطنطين المقدم ذكره، ويقولون: إنها رحلت من قسطنطينية إلى القدس، وأتت إلى محل الصلب بزعمهم، فوقفت وبكت، ثم سألت عن خشبة الصلب، فأخبرت أن اليهود دفنوها وجعلوا فوقها القمامات والنجاسات، فاستعظمت ذلك، واستخرجتها وغسلتها وطيبتها وغشتها بالذهب، وألبستها الحرير، وحملتها معها إلى القسطنطينية للتبرك، وبنت مكانها كنيسة، وهي المسماة الآن بالقمامة، أخذاً من اسم القمامة التي كانت موضوعة هناك.
ويعظمون من الأمكنة بيت لحم حيث مولد المسيح عليه السلام، وكنيسة قمامة حيث قبره، وموضع خشبة الصلب التي استخرجتها هيلاني أم قسطنطين بزعمهم.
وكذلك يعظمون سائر الكنائس: وهي أمكنة عباداتهم كالمساجد للمسلمين. وأصلها في اللغة مأخوذ من قولهم: كناس الظبي: وهو المكان الذي يستتر فيه، سميت بذلك لاستتارهم فيها حال عبادتهم عن أعين الناس. وكذلك يعظمون الديارات: وهي أمكنة التخلي والاعتزال كالزوايا للمسلمين.
ويعظمون المذبح: وهو مكان يكون في الكنيسة يقربون عنده القرابين ويذبحون الذبائح، ويعتقدون أن كل ما ذبح عليه من القربان صار لحمه ودمه هو لحم المسيح ودمه حقيقة.
ويعظمون من الأزمنة أعيادهم الآتي ذكرها عند ذكر أعياد الأمم: كعيد الغطاس من أعيادهم الكبار، وموقعه الحادي عشر من طوبه من شهور القبط، وعيد السيدة من أعيادهم الصغار، وموقعه في الحادي والعشرين من بؤونه منها، وعيد الصليب وموقعه عندهم في السابع عشر من توت، إلى غير ذلك من الأعياد الآتي ذكرها مع أعياد الأمم في الكلام على الأزمنة من هذه المقالة، إن شاء الله تعالى.
وأما الأشياء التي يتعبدون بها، فإنهم يصلون سبع صلوات في اليوم والليلة؛ وهي: الفجر، والضحى، والظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، ونصف الليل؛ ويقرؤون في صلاتهم بمزأمير داود عليه السلام كما تفعل اليهود. والسجود في صلاتهم غير محدود العدد، بل قد يسجدون في الركعة الواحدة خمسين سجدة. وهم يتوضؤن للصلاة، ولا يغتسلون من الجنابة، وينكرون الطهر للصلاة على المسلمين وعلى اليهود، ويقولون: الأصل طهارة القلب. وإذا أرادوا الصلاة ضربوا بالناقوس، وهو خشبة مستطيلة نحو الذراع يضرب عليها بخشبة لطيفة فيجتمعون. وهم يستقبلون في صلاتهم المشرق، وكذلك يوجهون إليه موتاهم. قال الزمخشري: ولعل ذهابهم إلى ذلك لأخذ مريم عليها السلام عنهم مكاناً شرقياً كما أخبر تعالى بقوله: {إذ انتبذت من أهلها مكاناً شرقياً}.
ولهم صيامات في أوقات متفرقة.
منها: صومهم الكبير: وهو ستون يوماً أولها يوم الاثنين. وموقع أوله في شباط أو أذار من شهور السريان، بحسب ما يقتضيه حسابهم، يفطرون في خلالها يوم الأحد، تبقى مدة صيامهم منها تسعة وأربعون يوماً.
ومنها: صومهم الصغير: وهو ستة وأربعون يوماً يصومونها بعد الفصح الكبير بخمسين يوماً، أولها يوم الاثنين أيضاً؛ وعندهم فيه خلاف.
ومنها: صوم العذارى: وهو ثلاثة أيام، أولها يوم الاثنين الكائن بعد كانون الثاني، في صيامات أخرى يطول ذكرها، ولكثرة صيامهم قيل: إذا حدثت أن نصرانياً مات من الجوع فصدق.
وأما ما يحرمونه، فإنهم يقولون بتحريم لحم الجمل ولبنه كما يقوله اليهود، ويقولون: بحل لحم الخنزير خلافاً لليهود، وهو مما ينكره اليهود عليهم من مخالفة أحكام التوراة.
ويحرمون صوم يوم الفصح الأكبر، وهو يوم فطرهم من صومهم الأكبر.
ويحرمون على الرجل أن يتزوج امرأتين في قرن واحد.
ويحرمون طلاق الزوجة بل إذا تزوج أحدهم امرأة لا يكون له منها فراق إلا بالموت.
وأما الأشياء التي يستعظمون الوقوع فيها: فمنها: جحود كون المسيح هو المبشر به على لسان موسى عليه السلام.
ومنها إنكار قتل المسيح عليه السلام وصلبه؛ فإنهم يعتقدون أن ذلك كان سبباً لخلاص اللاهوت من الناسوت، فمن أنكر عندهم وقوع القتل والصلب على المسيح خرج عن دين النصرانية، بل إنكار رؤيته مصلوباً عندهم ارتكاب محظور.
على أنهم ينكرون على اليهود ارتكابهم ذلك، ويستعظمون مشاركتهم في ذلك، فيالها من عقول أضلها بارئها!.
ومنها: كسر صليب الصلبوت، وهو الخشبة التي يزعمون أن المسيح عليه السلام صلب عليها. وقد تقدم أن هيلاني أم قسطنطين استخرجها من القمامة وغسلتها وطيبتها وغشتها بالذهب وألبستها الحرير وحملتها معها للتبرك.
ومنها: الرجوع عن متابعة الحواريين الذين هم أصحاب المسيح عليه السلام.
ومنها: الخروج عن دين النصرانية أو التبري منه، والقول بدين التوحيد أو دين اليهودية.
ومنها: الوقوع في حق قسطنطين وأمه هيلاني: لقيامها في إقامة دين النصرانية أولاً على ما تقدم ذكره. وكذلك الاستهانة بالبطاركة أو أحد من أرباب الديانات عندهم: كالأساقفة ونحوهم ممن تقدم ذكره.
ومنها: القعود عن أهل الشعانين: وهم أهل التسبيح الذين كانوا حول المسيح عليه السلام حين ركب الحمار بالقدس ودخل صهيون يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر وهم حوله يسبحون الله تعالى ويقدسونه.
ومنها: صوم يوم الفصح الأكبر، وصرف الوجه في الصلاة عن المشرق، واستقبال صخرة بيت المقدس موافقة لليهود.
ومنها: هدم كنيسة قمامة: لكونها عندهم في محل القبر بزعمهم. وكذلك غيرها من الكنائس والديرة.
ومنها: تكذيب أحد من نقلة الإنجيل الأربعة الذين كتبوه كمتى وغيره، أو تكذيب أحد من القسوس: وهم الذين يقرأون الإنجيل والمزأمير، وتكذيب مريم المجدلانية فيما أخبرت به عن المسيح من قيامه من قبره الذي كان دفن فيه بزعمهم؛ فإنهم يزعمون أنها أول من رآه عند قيامه.
ومنها: القول بنجاسة ماء المعمودية: وهو الماء الذي ينغمسون فيه عند تنصرهم.
ومنها: عدم اعتقاد أن القربان الذي يذبح في المذبح لا يصير لحمه ودمه هو لحم المسيح ودمه؛ ولعمري إن هذه لعقول ذاهبة.
ومنها: استباحة دماء أهل الديارات، والمشاركة في قتل الشماسة الذين هم خدام الكنائس.
ومنها: خيانة المسيح في وديعته. وذلك أنهم يزعمون أن كل ما خالفت فيه فرقة من الفرق الثلاث الفرقة الأخرى كقول الملكانية بأن المعاد جسماني، وقول اليعقوبية: إن المعاد روحاني، فإن الفرقة الأخرى يستعظمون الوقوع فيما ذهب إليه مخالفتها؛ وكذلك كل ما جرى هذا المجرى.
وقد رتب الكتاب أيمان النصارى على هذه المعتقدات. قال محمد بن عمر المدائني في كتاب القلم والدواة: وقد يذهب على كثير من الكتاب ما يستحلف به اليهود والنصارى عند الحاجة إلى ذلك منهم، فيستحلفون بأيمان الإسلام وهم مستحلون للحرام، ومجترئون على الآثام، وتأثمون من أيمانهم، والاستقسام بأديانهم. ثم أشار إلى أن أول ما رتبت الأيمان التي يحلف بها النصارى على هذه الطريقة في زمن الفضل بن الربيع، فحكى عن بعض كتاب العراق أنه قال: أراد الفضل بن الربيع: يعني وزر الرشيد أن يستحلف كاتبه عوناً النصراني، فلم يدر كيف يستحلفه، فقلت: ولني استحلافه، قال: دونك، فقلت له: احلف بالهك الذي لا تعبد غيره، ولا تدين إلا له، وإلا فخلعت النصرانية، وبرئت من المعمودية، وطرحت على المذبح خرقة حيضة يهودية، وقلت في المسيح ما يقوله المسلمون: إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب، وإلا فلعنك البطريك الأكبر، والمطارنة، والشماسة، والقمامسة، والديرانيون، وأصحاب الصوامع عند مجتمع الخنازير وتقريب القربان، وبما استغاثت به النصارى ليسوع، وإلا فعليك جرم ثلثمائة وثمانية عشر أسقفاً الذين خرجوا من نيقية حتى أقاموا عمود النصرانية، وإلا فشققت الناقوس وطبخت به لحم جمل وأكلته يوم الاثنين مدخل الصوم واتحمت من كل بركه يوما ورميت الشاهد بعشرين حجراً جاحداً بها، وهدمت كنيسة لد، وبنيت بها كنيسة اليهود، وخرقت غفارة مريم وكهنونة داود، وأنت حنيف مسلم؛ وهذه اليمين لازمة لك ولعقبك من بعدك. قال فقال عون: أنا لا أستحل أن أسمع هذه فكيف أقولها! وخرج من جميع ما طالبه به الفضل، فأمر بها الفضل فكتبت نسخاً وفرقت على الكتاب وأمرهم بحفظها وتحليف النصارى بها.
قلت: وقد أكثر الناس من ترتيب نسخ الأيمان لتحليف النصارى، فمن مطنب ومن موجز، على اختلاف مقاصدهم فيما يقع به التحليف ويوافق آراءهم فيه. وقد رتب المقر الشهابي بن فضل الله في التعريف: لهم إيماناً على مقتضى آراء فرقهم الثلاث المتقدمة الذكر: من الملكانية، واليعقوبية والنساطرة:
فأما الملكانية، فقال: إن يمينهم: والله والله والله العظيم، وحق المسيح عيسى ابن مريم، وأمه السيدة مريم، وما أعتقده من دين النصرانية، والملة المسيحية، وإلا أبرأ من المعمودية، وأقول: إن ماءها نجس، وإن القرابين رجس، وبرئت من مريحنا المعمدان والأناجيل الأربعةن وقلت: إن متى كذوب، وإن مريم قول اليهود، ودنت بدينهم في الجحود، وأنكرت اتحاد اللاهوت بالناسوت، وبرئت من الأب والابن وروح القدس، وكذبت القسوس، وشاركت في ذبح الشماس، وهدمت الديارات والكنائس، وكنت ممن مال على قسطنطين ابن هيلاني، وتعمد أمه بالعظائم، وخالفت المجامع التي أجمعت الأساقفة برومية والقسطنطينية، ووافقت البرذعاني بأنطاكية، وجحدت مذهب الملكانية، وسفهت رأي الرهبان، وأنكرت وقوع الصلب على السيد اليسوع، وكنت مع اليهود حين صلبوه، وحدت عن الحواريين، واستبحت دماء الديرانيين، وجذبت رداء الكبرياء عن البطريرك، وخرجت عن طاعة الباب، وصمت يوم الفصح الأكبر، وقعدت عن أهل الشعانين، وأبيت عيد الصليب والغطاس، ولم أحلف بعيد السيدة، وأكلت لحم الجمل، ودنت بدين اليهود، وأبحت حرمة الطلاق، وخنت المسيح في وديعته، وتزوجت في قرن بامرأتين وهدمت بيدي كنيسة قمامة، وكسرت صليب الصلبوت، وقلت في البنوة مقال نسطورس، ووجهت إلى الصخرة وجهي، وصديت عن الشرق المنير حيث كان المظهر الكريم، وإلا برئت من النورانيين والشعشعانيين، ودنت غير دين النصارى، وأنكرت أن السيد اليسوع أحيا الموتى، وأبرأ الأكمة والأبرص، وقلت بأنه مربوب، وأنه ما رؤي وهو مصلوب، وأنكرت أن القربان المقدس على المذبح ما صار لحم المسيح ودمه حقيقة، وخرجت في النصرانية عن لاحب الطريقة، وإلا قلت بدين التوحيد، وتعبدت غير الأرباب، وقصدت بالمظانيات غير طريق الإخلاص، وقلت: إن المعاد غير روحاني، وإن المعمودية لا تسيح في فسيح السماء، وأثبت وجود الحور العين في المعاد، وأن في الدار الآخرة التلذذات الجسمانية، وخرجت خروج الشعرة من العجين من دين النصرانية، وأكون من ديني محروماً، وقلت إن جرجس لم يقتل مظلوماً.
وأما اليعاقبة، فقال: إنه يبدل قوله: اتحاد اللاهوت بالناسوت بقوله: مماسة اللاهوت للناسوت. ويبطل قوله: ووافقت البرذعاني بأنطاكية، وجحدت مذهب الملكانية. ويبدل بقوله: وكذبت يعقوب البرذعاني، وقلت: إنه غير نصراني، وجحدت اليعقوبية، وقلت إن الحق مع الملكانية. ويبطل قوله: وخرجت عن طاعة الباب، ويبدل بقوله: وقاتلت بيدي عمدشيون، وخربت كنيسة قمامة وكنت أول مفتون.
وإن كان من النساطرة أبدل القولين وأبقى ما سواها، وقال عوض مماسة اللاهوت للناسوت: إشراق اللاهوت على الناسوت، ويزاد بعد ما يحذف: وقلت بالبراءة من نسطورس وما تضمنه الإنجيل المقدس.
وهذه نسخة يمين حلف عليها ملك النوبة للسلطان الملك المنصور قلاوون عند استقراره نائباً عنه في بلاد النوبة؛ وهي:
والله والله والله، وحق الثالوث المقدس، والإنجيل الطاهر، والسيدة الطاهرة العذراء أم النور، والمعمودية، والأنبياء والرسل، والحواريين، والقديسين، والشهداء الأبرار وإلا أجحد المسيح كما جحده بودس، وأقول فيه ما يقول اليهود، وأعتقد ما يعتقدونه، وإلا أكون بودس الذي طعن المسيح بالحربة- إنني أخلصت نيتي وطويتي من وقتي هذا وساعتي هذه للسلطان الملك فلان، وإني أبذل جهدي وطاقتي في تحصيل مرضاته، وإنني ما دمت نائبه لا أقطع المقرر علي في كل سنة تمضي: وهو ما يفضل من مشاطرة البلاد على ما كان يتحصل لمن تقدم من ملوك النوبة، وأن يكون النصف من المتحصل للسلطان مخلصاً من كل حق، والنصف الآخر مرصداً لعمارة البلاد وحفظها من عدو يطرقها، وأن يكون علي في كل سنة كذا وكذا. وإنني أقرر على كل نفر من الرعية الذين تحت يدي في البلاد من العقلاء البالغين ديناراً عيناً، وإنني لا أترك شيئاً من السلاح ولا أخفيه، ولا أمكن أحداً من إخفائه؛ ومتى خرجت عن جميع ما قررته أو عن شيء من هذا المذكور أعلاه كله، كنت بريئاً من الله تعالى ومن المسيح ومن السيدة الطاهرة، وأخسر دين النصرانية، وأصلي إلى غير الشرق، وأكسر الصليب، وأعتقد ما يعتقده اليهود. وإنني مهما سمعت من الأخبار الضارة والنافعة طالعت به السلطان في وقته وساعته، ولا أنفرد بشيء من الأشياء إذا لم يكن مصلحة، وإنني ولي من والى السلطان وعدو من عاداه؛ والله على ما نقول وكيل.
قلت: وسيأتي ذكر أيمان الفرنج على الهدنة عند ذكر ما أهمله في التعريف: من نسخ الأيمان في آخر الباب، إن شاء الله تعالى.
الملة الثالثة: المجوسية:
وهي الملة التي كان عليها الفرس ومن دان بدينهم، وهم ثلاث فرق:
الفرقة الأولى: الكيومرتية:
نسبة إلى كيومرت، ويقال: جيومرت بالجيم بدل الكاف. وهو مبدأ النسل عندهم كآدم عليه السلام عند غيرهم، وربما قيل: إن كيومرت هو آدم عليه السلام. وهؤلاء أثبتوا إلهاً قديماً وسموه يزدان، ومعناه النور، يعنون به الله تعالى، وإلهاً مخلوقاً سموه أهرمن، ومعناه الظلمة، يعنون به إبليس. ويزعمون أن سبب وجود أهرمن أن يزدان فكر في نفسه أنه لو كان له منازع كيف يكون، فحدث من هذه الفكرة الردية أهرمن، مطبوعاً على الشر والفتنة والفساد والضرر والإضرار، فخرج على يزدان وخالف طبيعته، فجرت بينهما محاربة كان آخر الأمر فيها على أن اصطلحا أن يكون العالم السفلي لأهرمن سبعة آلاف سنة، ثم يخلي العالم ويسلمه ليزدان. ثم إنه أباد الذين كانوا في الدنيا قبل الصلح وأهلكهم، وبدأ برجل يقال له كيومرت، وحيوان يقال له الثور، فكان من كيومرت البشر ومن الثور البقر وسائر الحيوان.
وقاعدة مذهبهم تعظيم النور، والتحرز من الظلمة، ومن هنا انجروا إلى النار فعبدوها: لما اشتملت عليه من النور. ولما كان الثور هو أصل الحيوان عندهم المصادف لوجود كيومرت، عظموا البقر حتى تعبدوا بأبوالها.
الفرقة الثانية: الثنوية:
وهم على رأي الكيومرتية في تفضيل النور والتحرز من الظلمة، إلا أنهم يقولون: إن الاثنين اللذين هما النور والظلمة قديمان.
الفرقة الثالثة: الزرادشتية الدائنون بدين المجوسية:
وهم أتباع زرادشت الذي ظهر في زمن كيستاسف السابع من ملوك الكيانية، وهم الطبقة الثانية من ملوك الفرس، وادعى النبوة وقال بوحدانية الله تعالى، وأنه واحد لا شريك له ولا ضد ولا ند، وأنه خالق النور والظلمة ومبدعهما، وأن الخير والشر والصلاح والفساد إنما حصل من امتزاجهما، وأن الله تعالى هو الذي مزجهما لحكمة رآها في التركيب، وأنهما لو لم يمتزجا لما كان وجود للعالم، وأنه لا يزال الامتزاج حتى يغلب النور الظلمة، ثم يخلص الخير في عالمه وينحط الشر إلى عالمه، وحينئذ تكون القيامة. وقال باستقبال المشرق حيث مطلع الأنوار، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، واجتناب الخبائث. وأتى بكتاب قيل صنفه، وقيل أنزل عليه. قال الشهرستاني: اسمه زندوستا. وقال المسعودي في التنبيه والإشراف: واسم هذا الكتاب الإيستا وإذا عرب أثبتت فيه قاف فقيل: الإيستاق، وعدد سوره إحدى وعشرون سورة، تقع كل سورة في مائتي ورقة؛ وعدد حروفه ستون حرفاً، لكل حرف سورة مفردة، فيها حروف تتكرر وفيها حروف تسقط. قال: وزرادشت هو الذي أحدث هذا الخط والمجوس تسميه: دين تبره، أي كتاب الدين.
وذكر أنه كتب باللغة الفارسية الأولى في اثني عشر ألف جلد ثور بقضبان الذهب حفراً، وأن أحداً اليوم لا يعرف معنى تلك اللغة، وإنما نقل لهم إلى هذه الفارسية شيء من السور في أيديهم يقرؤونها في صلواتهم: في بعضها الخبر عن مبتدإ العالم ومنتهاه، وفي بعضها مواعظ. قال: وعمل زرادشت لكتاب الإيستا شرحاً سماه: بادزنده، وعملت علماؤهم لذلك الشرح شرحاً سموه: يازده.
ومن حيث اختلاف الناس في كتاب زرادشت المقدم ذكره هذا: نزل عليه أو صنفه قال الفقهاء: إن للمجوس شبهة كتاب: لأنه غير مقطوع بكونه كتاباً منزلاً.
وأتى زرادشت كيستاسف الملك بمعجزات.
منها: أنه أتى بدائرة صحيحة بغير آلة، وهو ممتنع عند أهل الهندسة.
ومنها: أنه مر على أعمى، فأمرهم أن يأخذوا حشيشة سماها ويعصرها في عينيه، فأبصر. قال الشهرستاني: وليس ذلك من المعجزة في شيء، إذ يحتمل أنه كان يعرف خاصة الحشيشة.
وهم يقولون: إن الله تعالى خلق في الأول خلقاً روحانياً، فلما مضت ثلاثة آلاف سنة أنفذ الله تعالى مشيئته في صورة من نور متلأليء على تركيب صورة الإنسان، وخلق الشمس والقمر والكواكب والأرض وبنو آدم حينئذ غير متحركين في ثلاثة آلاف سنة.
ثم المجوس يفضلون الفرس على العرب وسائر الأمم، ويفضلون مالهم: من مدن وأبنية على غيرها من الأبنية؛ فيفضلون إقليم بابل على غيره من الأقاليم، ومدينته على سائر المدن، من حيث إن أوشهنج أول طبقة الكيانية من ملوك الفرس هو الذي بناها؛ ويقولون: إنه أول من جلس على السرير، ولبس التاج، ورفع الأعمال، ورتب الخراج؛ وكان ملكه بعد الطوفان بمائتي سنة، وقيل: بل كان قبل الطوفان.
ويفضلون الكتابة الفهلوية وهي الفارسية الأولى على غيرها من الخطوط، ويزعمون أن أول من وضعها طهمورث: وهو الذي ملك بعد أوشهنج المقدم ذكره.
ويجحدون سياسة بني ساسان، وهم الطبقة الثالثة من ملوك الفرس منسوبون إلى ساسان، ويسخطون على الروم، لغزوهم الفرس وتسلطهم عليهم ببلاد بابل، ويعبدون النار، ويرون أن الأفلاك فاعلة بنفسها، ويستبيحون فروج المحارم من البنات والأمهات، ويرون جواز الجمع بين الأختين إلى غير ذلك من عقائدهم.
ويعظمون النيروز: وهو أول يوم من سنتهم وعيدهم الأكبر. وأول من رتبه جمشيد أخو طهمورث. ويعظمون أيضاً المهرجان: وهو عيد مشهور من أعيادهم.
ويسخطون على بيوراسب؛ وهو رابع ملوكهم: وهو الضحاك، يقال له بالفارسية: الدهاش، ومعناه عشر آفات. وكان ظلوماً غشوماً، سار فيهم بالجور والعسف، وبسط يده بالقتل، وسن العشور والمكوس واتخذ المغنين والملاهي، وكان على كتفه سلعتان مستورتان بثيابه يحركهما إذا شاء، فكان يدع أنهما حيتان، تهويلاً على ضعفاء العقول، ويزعم أن ما يأخذه من الرعية يطعمه لهما ليكفهما عن الناس، وأنهما لا يشبعان إلا بأدمغة بني آدم؛ فكان يقتل في كل يوم عدداً كثيراً من الخلق بهذه الحجة. ويقال: إن إبراهيم الخليل عليه السلام كان في آخر أيامه.
وكان من شأنه أنه لما كثر جوره وظلمه على الناس، ظهر بأصبهان رجل اسمه كابي، ويقال: كابيان من سفلة الناس، قيل حداد، كان الضحاك قد قتل له ابنين فأخذ كابي المذكور درفساً، وهو الحربة، وعلق بأعلاها قطعة نطع كان يتفي بها النار، ونادى في الناس بمحاربة الضحاك، فأجابه خلق كثير، واستفحل أمره، وقصد الضحاك بمن معه، فهرب الضحاك منه، فسأله الناس أن يتملك عليهم فامتنع لكونه من غير بيت الملك، وأشار بتولية إفريدون من عقب جمشيد المقدم ذكره، فولوه، فتبع الضحاك إلى أهله، فصار لكابي المذكور عندهم المقام الأعلى، وعظموا درفسه الذي علق به تلك القطعة من النطع، وكللوه بالجواهر، ورصعوه باليواقيت، ولم يزل عند ملوكهم يستفتحون به في الحروب العظيمة حتى كان معهم أيام يزدجرد آخر ملوكهم عند محاربة المسلمين لهم في زمن عثمان، فغلبهم المسلمون واقتلعوه منهم.
وهم يعظمون أفريدون ملكهم المقدم ذكره، لقيامه في هلاك الضحاك وقتله. وفي أول ملك أفريدون هذا كان إبراهيم الخليل عليه السلام. ويقال: إنه ذو القرنين المذكور في القرآن الكريم.
وهم يعظمون أيضاً من ملوكهم سأبور الملقب بذي الأكتاف، لأخذه بثأر العجم من الغرب. وذلك أنه كان يتبع العرب بالجزيرة الفراتية وما جاورها، وسار في طلبهم حتى بلغ البحرين، ليهلكهم قتلاً، لا يقبل من أحد منهم فداء؛ ثم أخذ في خلع أكتافهم، فلذلك سمي ذا الأكتاف.
ويعظمون ماني بن فاتن: وهو رجل ظهر في زمن سأبور بن أرشير بعد عيسى عليه السلام، وادعى النبوة وأحدث ديناً بين المجوسية والنصرانية. وكان يقول: إن العالم مصنوع من النور والظلمة، وأنهما لم يزالا قديمين حساسين سميعين بصيرين. وله أتباع يعرفون بالمانوية.
ويتبرؤون من مزدك: وهو رجل مشهور منسوب عندهم إلى الزندقة أيضاً، ظهر في زمن قباذ أحد ملوك الفرس من الأكاسرة، وادعى النبوة ونهى عن المخالفة والمباغضة، وزعم أن ذلك إنما يحصل بسبب النساء والمال، فأمر بالاشتراك والمساواة فيهما، وتبعه قباذ على ذلك، فتوصلت سفلة الرجال إلى إشراف النساء، وحصل بذلك مفسدة عظيمة. وكان يقول: إن النور عالم حساس، والظلام جاهل أعمى، والنور يفعل بالقصد والاختيار، والظلمة تفعل على الخبط والاتفاق، وإن امتزاج النور والظلمة كان بالاتفاق والخبط دون القصد والاختيار، وكذلك الخلاص. وله أتباع يقال لهم المزدكية، ولم يزل على ذلك حتى قتله شروان بن قباذ هو وأتباعه، وقتل معهم المانوية أتباع ماني المقدم ذكره، وعادت الفرس إلى المجوسية القديمة.
وقد رتب في التعريف للمجوس يميناً على مقتضى ما عليه عقيدة المجوس أتباع زرادشت المقدم ذكره؛ وهي: إنني والله الرب العظيم، القديم، النور، الأول، رب الأرباب، وغله الآلهة، ماحي آية الظلم، والموجد من العدم، مقدر الأفلاك ومسيرها، ومنور الشهب ومصورها، خالق الشمس والقمر، ومنبت النجوم والشجر، والنار والنور، والظل والحرور، وحق جيومرت وما أولد من كرائم النسل، وزرادشت وما جاء به من القول الفصل، والزند وما تضمنه، والخط المستدير وما بين، وإلا أنكت أن زرادشت لم يأت بالدائرة الصحيحة بغير آلة، وأن مملكة إفريدون كانت ضلالة، وأكون قد شاركت بيوراسب فيما سفك طعماً لحيتيه، وقلت إن كابيان لم يسلط عليه، وحرقت بيدي الدرفس، وأنكرت ما عليه من الوضع الذي أشرقت عليه أجرام الكواكب، وتمازجت فيه القوى الأرضية بالقوى السماوية، وكذبت ماني وصدقت مزدك، واستبحت فضول الفروج والأموال، وقلت بإنكار الترتيب في طبقات العالم، وأنه لا مرجع في الأبوة إلا إلى آدم، وفضلت العرب على العجم، وجعلت الفرس كسائر الأمم، ومسحت بيدي خطوط الفهلوية، وجحدت السياسة الساسانية، وكنت ممن غزا الفرس مع الروم، وممن خطأ سأبور في خلع أكتاف العرب، وجلبت البلاء إلى بابل، ودنت بغير دين الأوائل، وإلا أطفأت النار، وأنكرت فعل الفلك الدوار، ومالات فاعل الليل على فاعل النهار، وأبطلت حكم النيروز والمهرجان، وأطفأت ليلة الصدق مصابيح النيران، وإلا أكون ممن حرم فروج الأمهات، وقال بأنه لا يجوز الجمع بين الأخوات، وأكون ممن أنكر صواب فعل أردشير، وكنت لقومي بئس المولى وبئس العشير.